كتعريف بسيط قصيدة النثر هي إحدى الفنون الأدبية التي اعتمدت في بنائها على التكثيف الصوري والانفتاح الحر في نسج شبكة متكاملة من أبجديات مشبعة بالدهشة مما جعلها محط أنظار القراء على مدى عمرها , وقد ظهر هذا النوع من الشعر في بدايات القرن العشرين ويقول البعض أنها جاءت بفعل الترجمات للأدب الفرنسي والإنكليزي وتمتاز بإيقاعها , وهكذا يعتقد شعراء قصيدة النثر بأن إيقاعها يفوق إيقاع القصيدة الموزونة وطبعا هذا رأي الشعراء الذين يميلون بكتاباتهم لقصيدة النثر وربما لا يوافقهم الرأي شعراء قصيدة العمود , ويذكر أن التجديد في الشعر ظهر أواخر القرن التاسع عشر التي أراد روادها تخليص اللغة العربية من الركاكة التي تعرضت لها أبان الحكم العثماني فكان أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وغيرهم قد دعوا لحركة التجديد , فالتجديد هو ليس بالخروج ولكن هو النزول إلى لغة الحياة اليومية , فخروج أبي نؤاس وأن كان خروجه فرديا هو تجديد والموشحات الأندلسية كانت تجديدا أخر , ويمكن أن نمر مروا سريعا مع مَنْ كتب النص النثري وتاريخه .
في الغرب كتبت قصيدة النثر منذ القدم . و يبدو أن الشاعر الفرنسي ( الوزيوس بيرتران ) هو أول من كتب قصيدة النثر في الشعر الفرنسي ثم كتب بعده شعراء عده وقد أشتهر منهم بودلير ورامبو , أما في الوطن العربي فكان الشاعر السوري ( على الناصر ) أول من نشر قصائد نثرية في عام 1928, والشاعر المصري ( حسين عفيف ) الذي نشر شعرا منثورا سنة 1933 واللبناني ( بشير فارس ) والعراقي ( نوري الراوي ) الذي نشر قصائده في عام 1937 في مجلة الرافدين والمصري ( منير رمزي ) و( وصالح علي الشرنوبي ) في عام 1943 , فضلا عن شعراء أمثال عبد العزيز أرناؤوط وجوهرة نعمان وفاضل كنج
ويرى بعض النقاد والمهتمين في هذا الشأن أن العرب كتبوها عام 1960 كما جاء في مجلة " شعر " وكان ممن كتب قصيدة النثر الذين يعدون من رواد القصيدة : أنسي الحاج ومحمد الماغوط وتوفيق الصايغ وأدونيس وبسام حجار وسركون بولص وعباس بيضون وجبرا إبراهيم جبرا وعز الدين مناصرة ويعتبر الشاعر العراقي حسين مردان من رواد قصيدة النثر فقد كتبها وأبدع فيها وهناك أسماء كثيرة لا مجال لذكرها , فيما يعتقد البعض أن قصيدة النثر جاءت منذ عام 1954 بصدور ( ثلاثون قصيدة ) للشاعر الفلسطيني ( توفيق صايغ )
وتختلف الآراء في شكل قصيدة النثر وروادها فيعتقدون أن جبران خليل جبران وأمين الريحاني هما رائدا الشعر النثري , لكن جبران كتب بسطر كامل يشبه القصة غير أن أمين الريحاني كتب بالسطر القصير أي التشطير , وقد قال لي أحد الأساتذة الذين يقفون ضد النص النثري قال: أن كتابة النص كما كتبه جبران هو الأسلم وأما ما يكتب بالشطر فهذا خطأ كبير , لكن العجيب أن شعراء كبار من رواد قصيدة النثر كتبوها بالشطر وليس بأسلوب جبران المعروف الذي يشبه القصة ويبدو هناك خلاف بين النقاد وأهل الفكر في هذا المجال ويعتقدون أن الذي يحصل هو عدم التميز بين القصيدة الحرة وقصيدة النثر , فكانت هناك محاولات لإلحاق قصيدة النثر بالقصيدة الحرة , وهي محاولات متأخرة ربما تجد المعارضة من البعض أيضا , وذلك لأن النص النثري تجاوز بمساحتهِ القصيدة الحرة التي ولدت في مخاض صعب وكتب روادها ونجحوا في حينها , لكن اليوم وبعد ما استولت قصيدة النثر على المشهد الشعري العالمي لم تعد القصيدة الحرة تجد لها ذلك الرواج الستيني والسبعيني .
وقد حاول البعض من النقاد التقليل من أهمية القصيدة النثرية من خلال الإعلام , ونشرت مقالات كثيرة تستهجن من قصيدة النثر ومن أسماء شعرية ونقدية مهمة , فمثلا يقول الناقد المعروف ( إحسان عباس ) ( لم أعثر على الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر ) أما ( جان كوهين ) و هو فيلسوف وأستاذ فرنسي في جامعة السوربون، يقول أن قصيدة النثر تفتقد إلى البنية الصوتية , وما قاله الشاعر محمود درويش وعبر مقال نشره في مجلته ( الكرمل ) عام 1982 وتحت عنوان ( أنقذونا من هذا الشعر ) ويقصد بالشعر النثري وفي مقابلة صحفية أخرى وصف الشعراء بميليشيات قصيدة النثر, وقالوا ما قالوا بأن قصيدة النثر , بالقصيدة الخنثى وحتى ( مجلة شعر البيروتية ) التي تبنت قصيدة النثر حوربت كثيرا وشاع في حينها أن مَنْ يدعمها دول كبرى وعلى أثر ذلك أنسحب منها العديد من الشعراء , وهكذا بقت تتعرض إلى هجمات من الشعراء أنفسهم
لكن ما أعاد الاعتبار لقصيدة النثر ظهور بوادر العولمة وحرية النشر فبعد أن كان شعراء قصيدة النثر يرفضون المشاركة في المهرجانات الشعرية العربية حتى مطلع التسعينات بدعوى أنها قصيدة غير منبريه ولا تصلح للإلقاء , بدؤوا فيما بعد يشاركون بغزارة في المهرجانات والجلسات الثقافية , وكتبت العديد من الرسائل والأطروحات الجامعية عن قصيدة النثر فأصبحت هي السائدة والمسيطرة في المجلات والصحف والمنتديات وكتبت أجمل الدراسات النقدية وامتلأت المكتبات العربية بل أصبحت هي الأكثر رواجا في المعارض التي تقيمها الدول للكتاب سنويا إلا أن أهل النحو ما زالوا ينظرون لها كما كانوا , ولهم الحق في ذلك فهم يقولون أن القصيدة العمودية هي الأم والخالدة في تاريخنا العربي , وفي لقاء مع الدكتور الشاعر محمد حسين آل ياسين سألته عن قصيدة لنثر فأجابني.. ( رأي فيها ينحصر في اعتراضي على التسمية , إذ أرى فيها إشكالا ( أجناسيا ) ولا أماري في كونها نصا أدبيا يمكن أن يكون فنيا في بعض نماذجه الجيدة الناجحة , ولكني ما زلت لا أفهم الجمع في أسمها بين جنسين لكل منها شرائطه ولغته وسماته وخصائصه وتجاربه , فلا أرى صحة الجمع بين ( قصيدة ) و ( النثر ) في التسمية ؛ إذ هما مختلفان متناقضان , ولا أدري لماذا يصر كتاب النثر على تسمية كتاباتهم بالقصيدة ) ثم يتطرق ويقول ( ويمثل التخلي عنها ميلا نحو السهولة واليسر فأستطاع كتابة النثر والمسمى بقصيدة النثر ألاف الطلاب والمتعلمين ومن أليهم قد وجدوا باب الشعر سهلا جدا فدخلوا وفرحوا بدخولهم ولم يصدقوا أنفسهم أنهم يوصفون بالشعراء بأقل البذل والجهد بعد أن كان متمنعا صعبا لا يستطيعه كثيرون ) .. لكن مع هذا نجد بعض من شعراء قصيدة العمود كتبوا النثر بل غادر بعضهم قصيدة العمود والبعض يكتب النثر والعمود , ولدي أسماء كثيرة لكنني أتجنب ذكر ذلك , وأصبح الأمر لا يتفق على رأي واحد فلكل شاعر وناقد رأيه الخاص به , لكن الجميل هو إنني سألت أستاذا جامعيا حول قصيدة النثر فقال : هي ليست شعرا , لأن مَنْ يكتبها لا يجيد العروض وهي غالبا مليئة بالأخطاء النحوية ولا تمثل هوية الشعر العربي الذي عرف بالبلاغة وأن القصيدة العمودية هي الهوية الحقيقية دون كلام .
وهكذا بقيت الخلافات رغم المحاولات الكثيرة لتصفية الأجواء بين القصيدة العمودية وقصيدة النثر , ولنترك هذا لمستقبل أخر وأجيال أخرى ..